الومضة والصدمة وجاذبيتهما لسيناريو الأفلام في قصص خلف
بعد نشر هذا المقال في مجلة البحرين الثقافية، عدد شهر أبريل ٢٠٢٢، قام الصديق الاستاذ عبد الله جناحي بإعداد نشره في موقع أوان، على الرابط أدناه:
أخيراً عاد إلينا القاص المبدع خلف أحمد خلف بإصداره مجموعة قصصية في أواخرعام 2019 بعنوان "أقربُ من صحوة".
القاص خلف هو أحد رواد أدب السرد القصصي في البحرين، وقد صدرت له المجموعة الأولى عام ١٩٧٥ بعنوان "الحلم وجوه أخرى" وتلاها في عام ١٩٨٥ فأصدر مجموعته القصصية الثانية بعنوان "فيزنار". وفي مجال المسرح صدرت له المسرحية المعروفة جمالاً "اللعبة" في عام ١٩٨١، ثم مسرحية "هواجس العمر" ضمن خمس تجارب مسرحية من البحرين وذلك عام ٢٠٠٠. ومن المعروف أن القاص خلف ممن أسسوا فن قصة ومسرح الأطفال في البحرين والخليج العربي، حيث صدر له عام ١٩٨٣ ضمن مسرح الطفل كتاب بعنوان "العفريت ووطن طائر"، ثم "النحلة والأسد" في عام ١٩٨٩، وتلاها "وديعة الأمل" تضمن أربعة نصوص مسرحية للأطفال،وذلك عام ٢٠١٣، إضافة إلى عدد من قصص الأطفال تم نشرها منفردة داخل وخارج البحرين بدءاً من عام 1979، وبعضها تحول إلى سيناريوهات لمسرحيات ناجحة.
في مجموعته القصصية الجديدة "أقرب من صحوة" نشر إحدى عشرة قصة قصيرة، بعضها قديمة سبق نشرها في الصحف والمجلات المحلية والعربية، وبعضها قديمة ولكنها لم تنشر من قبل. وقد بادرت أسرة الأدباء والكتاب بتدشين مشروع إصدار إبداعات رواد ومؤسسي الأسرة، وكانت هذه المجموعة القصصية من أولى هذه المبادرات.
في هذا البحث نحاول تبيان أسلوب جاذبية قصص خلف أحمد خلف لكُتّاب السيناريو التلفزيوني، والثيمات التي حولت القصص القصيرة إلى مسلسلات وأفلام تلفزيونية
الومضة الأولى:
من أهم مميزات قصص خلف أحمد خلف أنها تصويرية واقعية لدرجة تجذب كُتاب السيناريو لتحويلها إلى أفلام مسلسلات تلفزيونية ومسرحيات. وهذه القدرة التصويرية لقصة قصيرة لا تتعدى بضع صفحات كقصة "أقربُ من صحوة.. أبعد عن نزوة" المنشورة في هذه المجموعة قد أثارت مخيلة الفنان يعقوب يوسف (مُلحن للعديد من الأغاني وكاتب مسرحي وسيناريست، وحالياً رئيس اتحاد جمعيات المسرحيين في البحرين) حيث قام بإعداد سيناريو مسلسل تلفزيوني من ثلاثين حلقة من وحي وأجواء هذه القصة القصيرة للقاص خلف. لكن وللأسف لم يتم تنفيذه لغاية الآن. انجذب الفنان يعقوب لهذه القصة عندما اطلع عليها في موقع "جهة الشعر" الإلكتروني الذي أنشأه الشاعر البحريني قاسم حداد. هذا الموقع الإبداعي الذي توقف، رغم أنه كان يمثل كنزاً يتنفس ومصدراً لمن يبحث عن نصوص إبداعية عربية، وجهداً يشكر عليه شاعرنا قاسم، واستمرار وجود أوكسجين الإبداع لهذا الموقع الإلكتروني رسالة لمن "يتشدق" بدعم التنمية الإبداعية بأن يرسل فِرق الدعم لإنقاذ ما تبقى من هذا الإبداع وهو يتنفس-رغم توقفه- ليرجع متألقاً بأيدي المبدعين وحدهم قبل أن يتوقف قلبه ويختفي رويداً رويدًا مع تحولات الفضاء الإبداعي الإلكتروني!.
هنا سر الومضة التَخيُّلية:
توقفت كثيراً أمام هذه القصة القصيرة، وبحثت عن "السر" الخفي الذي فَجَّرَ خيالات الفنان يعقوب يوسف من تحويلها إلى سيناريو مسلسل تلفزيوني من ثلاثين حلقة- أي في حدود ٣٠٠ صفحة من الحجم الكبير!. رغم أن هذه القصة مكونة من ستة عناوين وفي حدود ٢١ صفحة من الحجم المتوسط، وتدور أحداثها في يوم واحد،لكن بعض الأجزاء تسترجع أحداثاً ماضية لحياة ومعاناة المرأة/الزوجة الجديدة الصغيرة/الأم، وزوجها الأكبر منها وأبنائها، ومضمونها اجتماعي تنتهي في عنوانها السادس بفتاة صغيرة تفتح عينيها على وجه أمها وهي متألقة بوجه مشرق وبابتسامة عذبة لم تشهدها قط، " كانت كما لو هي جذلى بفرح طاغ يشعّ من عينيها ومن ابتسامة شفتيها، كمن استعادت سنوات شبابها، واكتشفت للتو كنه ذاتها"!.
وقالت لابنتها:
- هيا يا بنيتي... أنا مستعدة لتأجيل طلب الطلاق، لكن بشرط..
وكان شرط أمها أن "تضمني صورة عائلية تجمعني مع كل أبنائي وأحفادي".
شخصياً تفاجأت من هذا الشرط الغريب والبسيط لمنع طلاق خطير يهدد عائلة، ورغم أن خلفيات سبب طلبها الطلاق توضحها الأجزاء الأولى من القصة، لكنني أحسست بأن شرط الأم، قد فجّر خيال المبدع يعقوب يوسف ليحول هذا الشرط إلى سيناريو يشرح الخلفية والمعنى والعمق النفسي والعاطفي والاجتماعي لأعماق رغبة الأم في تجميع كل أبنائها وأحفادها معاً في مكان واحد. هو إذن الفراغ والجفاف ونوع من التفكك الأسري، والعلاقات الجامدة الخشبية المصطنعة التي عاشتها هذه الأم، والتي تراكمت في أعماقها لدرجة قناعتها بأن حريتها وراحتها في الطلاق، طلاق هذه الحياة الجافة.
وتكشف هذه القصة، هذه "الومضة" دون تفصيل ممل، وإنما عبر خيال جامح للقارئ والمتلقي. حيث أصرّت الأم أن يتم التصوير في الاستديو - وليس بكاميرات الهواتف الذكية - هذا الإصرار له دلالة اجتماعية وإدانة واضحة للحياة الاجتماعية الراهنة "المعولمة"، حيث لا وقت للأبناء بأن يتركوا حياتهم اليومية الاستهلاكية -في كل شيء- ويتفرغوا "جميعهم" وهم المنفصلون عن بعضهم البعض عاطفياً واجتماعياً، يتواصلون "بالوتساب" ولذلك لا وقت لديهم، ولو لساعات قليلة بأن يجتمعوا معاً ويذهبوا لاستديو التصوير، فحاولوا إقناع الأم بأن يتم التصوير عبر كاميرات هواتفهم حيث التصوير السريع الاستهلاكي الذي سيتم بعده توزيع ونشر الصور إلكترونياً في مجموعات وشبكات التواصل الاجتماعي، لتُنسى وتختفي بعد أيام في غياهب هذا الفضاء الإلكتروني. إصرار الأم على التصوير داخل الاستديو يعني إصرارها على اللقاء العائلي الحميمي البعيد عن اللهاث وراء حياة وسلوك وثقافة تعزز التفاهة والخواء الروحي، بل إن هدفها كامرأة أن ترجع رقماً وإنسانة فاعلة لها دورها ورأيها بعد سنوات طويلة من الإهمال والمعاناة في زواجها وحياتها الأسرية، وأن تكون لديها صورة مع عائلتها، وهي التي عاشت في منزلٍ لا صورة لها على جدران المنزل! .
لذلك "جلست أمام الكاميرا على مقعد وثير وحلّق وراءها إبناها وابنتاها بينما جوارها جميع أحفادها، محتضنة أصغرهم،تلازمها ابتسامة ما عرفتها من قبل ترتسم على شفتيها، مخلدة "انتصار تلك اللحظة للأبد".
هنا تنتهي القصة، كحبر على ورق!، ولكن لدى الخيال الخصب تنفجر ومضات الوحي والتأمل والتألق، لتحول هذه الومضة السريعة إلى رواية أو فيلم أو دراسة علمية اجتماعية. تماماً كومضة "تفاحة" نيوتن حينما سقطت من أعلى الشجرة وهو مستلق تحتها، فإذا بومضة إشراقية فجّرت في مخيلته نظرية الجاذبية التي أدت إلى قفزات نوعية في علوم الفيزياء والهندسة والفضاء.
هذه الومضة التي تشعّ في معظم قصص خلف أحمد خلف، ومضة الصوفي، إشارات سريعة دون شرح أو تفاصيل لا داعٍ لها، وعلى المريدين من القراء وكتاب السيناريوهات أن يلتقطوها ليحولوها إلى أشعار وأفلام ودراسات.
الخطأ الجميل:
ولكي أتأكد من منطقية "خيالي" هذا، تواصلت مع الفنان يعقوب يوسف في محاولة للتعرف على سر انجذابه وإعجابه بقصة قصيرة، وكيف حوّلها إلى ثلاثين حلقة في مسلسل تلفزيوني؟.
عنوان المسلسل التلفزيوني الذي أعده الفنان يعقوب يوسف هو (سرد)، وكان ذلك خطأً وسهواً جميلاً. فقد اطلع يعقوب على القصة في الموقع الإلكتروني "جهة الشعر" لقاسم حداد، والذي نشر قصة خلف في قسم (سرد)، واعتقد يعقوب بأن العنوان الأساس للقصة هو "سرد" وأن باقي العناوين الأخرى للقصة هي عناوين فرعية!.
هذا السهو الجميل وقعتُ فيه أنا أيضاً، وذلك عندما قرأت في البداية الجزء السادس والأخير من هذه القصة والذي عنونه "في صبيحة اليوم التالي"، حينما كنت أبحث عن قصص خلف التي تحولت إلى سيناريوهات أفلام تلفزيونية، ولم أنتبه إلى بقية الأجزاء السابقة من القصة، ومن هذا الجزء الأخير الذي لا تتجاوز عدد كلماته ١٣٠ كلمة وفي حدود صفحة وربع من الحجم المتوسط، فاعتقدتُ في حينه بأن الكثافة التصويرية في هذا الجزء الأخير من القصة قادرة لوحدها بأن تُغطي كل المعاناة والآلام لهذه الأم (أم عبدالله) في طلب الطلاق وتأجيله بشرطها المتقدم ذكره، وهو كل ما أثار وحفّز مخيلة الفنان بعقوب-كما أشعل مخيلتي-. ولكن لاحقاً وبعد قراءتي للحلقة الأولى من سيناريو المسلسل استوعبت سهوي وخطئي. غير أنني استمتعتُ بنتائج هذا السهو من حيث قدرة هذا الجزء الأخير من القصة بومضته وكثافته في خلق انبهار "الصدمة" في المخيلة لدرجة استيعابها لجميع الأجواء العاطفية والمشاعر والمعاناة العميقة لمجمل بقية أجزاء القصة من عنوانها الفرعي الأول إلى العنوان الاخير في فرعها السادس. وعند قراءتي لجميع أجزاء القصة القصيرة تيقّنتُ بأن كل مضامين القصة ومشاعرها ومعاناتها وغيرها قد تكثّفت بكلمات قليلة في الجزء الأخير منها، وهي الومضة والصدمة التي تطلق للمخيلة عنان إنتاج سيناريوهات ضخمة !.
التعليق الذي أوضحه الفنان يعقوب يوسف عند سؤالي عن "السر" وراء هذه الجاذبية لقصة قصيرة وتحويلها إلى مسلسل تلفزيوني، هو "الومضة" في هذه القصة وملامستها شعورياً وخيالياً لمعاناة المرأة والأم والزوجة في خضم حياتها المهمّشة لدرجة أن هذه الومضة قد وسّعت من عدسة الرؤية في ذهنه بحيث اعتبر هذه القصة مجرد النواة التي انشطرت وتشظّت ومن كل الزوايا إلى عوالم وفضاءات عاطفية واجتماعية بمشكلاتها وإفرازاتها الماضية والحاضرة والمستقبلية. يبتعد قليلاً أو كثيراً عن سياق القصة في أحداث ومشاهد تحمل روح وهواجس القصة الأصلية، وما يلبث ويرجع إلى أحداث ومشاهد القصة ذاتها، وبهكذا مخيلة ورؤية حوّلَ يعقوب قصة قصيرة إلى سيناريو طويل جداً !.
يعلق الفنان يعقوب حول أهم مفاصل حلقات السيناريو الذي أعدّه، قائلاً:
" ملاحظة حول انجذابي لقصة الأخ المبدع خلف أحمد خلف " أقرب من صحوة" وهي أن الأم (بؤرة القصة) هي الأم الفعلية للأبناء والبنات، لكن العيال ينادونها بأم عبدالله وليس (أمي) حيث أنها كانت نتاج معاناة قديمة، فلقد تم تزويجها وهي طفلة لا تتعدى ١٢ سنة لرجل غني (متزوج من امرأة غنية لم تنجب الا ابناً واحداً ) لغرض الإنجاب. الأبناء كبروا وهم ينادون الزوجة الغنية (أمي) والأم الحقيقية (أم عبدالله) حتى بعد وفاة الزوجة. لا توجد أي صور في البيت للأم الحقيقية مع العائلة كما إنها قد عاشت في البيت في غرفة لا ترقى أن تكون للخدم، وربما أقصى ما كانت تتمناه بعد اعتراف الأبناء بها أن تكون لها صورة مع العائلة، وعليه تراجعت عن قرار الطلاق الذي طلبته من زوجها الثري عند الولوج في القصة.
هناك ومضة أخرى ذكرها الأستاذ خلف في قصته بشكل عابر وهي (العمّة) التي ماتت بشكل غامض. هذا الغموض هو ما دفعني لتخيل بعض الجوانب الإنسانية التي قد لا تظهر بشكل واضح في بعض عناصر الشخوص المؤثرة في الحدث ( كما هو موجود في القصة) لكن الخيال دفعني للتركيز على هذه الشخصية و معاناتها الخفية ليبرزها سيناريو المسلسل بشكل رئيسي من خلال الربط بين أخيها وصديقه الذي يصبح فيما بعد الرجل الغني الذي زوجه أخوه ابنته الصغيرة ثم الأحداث المأساوية التي تمر بها العمّة حتى موتها، والذي يتركه السيناريو مبهمًا (كما في قصة خلف)، هل هو انتحار أم قتل مفتعل؟" .
وأعتقد بأن هذا التعليق يؤكد بأن "الومضات" في هذه القصة القصيرة قد أشعلت شرارة المُخيِّلة لدى يعقوب كنواة للسيناريو الذي أعدّه.
الومضة الثانية؛ "العطش" وقصة قصيرة أخرى:
ضمن مجموعته القصصية (أقربُ من صحوة) نشر القاص خلف أحمد خلف قصة قصيرة بعنوان (مجرد محاولة لقول شيء بالمناسبة) والتي نشرت في عام ١٩٨٣م في مجلة "كلمات" التي كانت تصدرها أسرة الأدباء والكتاب في البحرين.
الشاعر علي الشرقاوي
هذه القصة تم تقسيمها إلى خمسة عشر مشهداً على شكل لقطات لفيلم. ويبدو كأختها السابقة، حيث فجرت مخيلة الروائي والناقد السينمائي البحريني أمين صالح، والشاعر البحريني المبدع علي الشرقاوي، ليحولان هذه القصة إلى سهرة تلفزيونية بعنوان "العطش"، التي أخرجها لتلفزيون البحرين المخرج والفنان المبدع عبدالله يوسف في ثمانينيات القرن الماضي.
في هذه السهرة التلفزيونية تتجلّى بوضوح "الومضات" التي جذبت مخيلة أمين والشرقاوي في إعداد سيناريو استوحيا أهم مضامين وحوارات وأفكار قصة خلف، وبالأخص تلك الومضات النقدية للواقع الاستهلاكي الشكلاني في مجتمعات الخليج العربي المعتمدة على الاقتصاد الريعي، حيث الوظيفة الرئيسة لهذا النوع من الاقتصاد هي استخراج النفط كمورد وحيد تقريباً لحياة هذه المجتمعات وبيعه للخارج، وتوزيع ريعه المالي على القطاعات الاقتصادية والخدماتية والاجتماعية دون وجود مقوّمات اقتصادية إنتاجية حقيقية، واعتمادها على العمالة المهاجرة الوافدة، وعلى الربح السريع من المضاربات في الأسهم والعقارات والأراضي، والتقليد المظهري الخارجي. كل هذا النمط الاقتصادي الذي أفرز قيَماً وسلوكيات وبُنية فكرية واجتماعية ريعية، وبُنية اقتصادية هشّة وطفيلية بالكامل على ريع النفط فقط. وهذا ما أدى إلى انهيار هذه المجتمعات عند أول أزمة بيئية خطيرة. حيث اختارت هذه القصة حادثة انتشار بقعة كبيرة من النفط في الخليج العربي. وتمكن أمين والشرقاوي من التقاطها وتضخيمها -كما في القصة- ونجح المخرج عبدالله يوسف من تلمّسها وإبرازها بشكل جميل ومؤثر عبر كادر من نخبة الممثلين ذوي خبرة وتجربة.
إن النبوءة التي كشفها كل من قصة خلف وسيناريو أمين والشرقاوي، وذلك حين غزت بقعة النفط السوداء بحار وأمطار ومزارع مجتمعاتنا الخليجية، وتسببت في موت الكائنات البحرية وتلوثها، والنتيجة انتهاء مهنة الصيد والزراعة، وتوقف عجلة الحياة الاقتصادية وانهيار القطاعات المصرفية والتجارية وغيرها.
في القصة وفيلم العطش لم تبقَ في هذه الجزيرة سوى المساومة مع الغرب الرأسمالي في تسليم مُقدّرات ما تحت الأرض من نفط مقابل هجرة جماعية لشعبنا من أجل تحقيق الاستقرار والاسترزاق والحياة والعمل خارجها لتصبح الجزيرة مهجورة، اللهم إلّا من العجائز والعاجزين عن الهجرة والاستيطان خارج أوطانهم، والمتشبثين بأرضهم وأوطانهم. هذه الإشارة التي وردت في القصة قد تم توظيفها فنّيًا في سهرة فيلم "العطش" .
الروائي والناقد السينمائي أمين صالح
وللعلم هناك بعض الدول الشبيهة اقتصادياً بدولنا الريعية، دول تم اصطناعها من قبل الاستعمار البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، وقد انهارت واختفت تماماً كما تنبأ القاص خلف في قصته، وذلك بعد أن استنفد دورها الاقتصادي الريعي. وأكبر مثال إحدى الجزر في منطقة شرق آسيا والتي كانت مشهورة بوجود أشجار المطاط وإنتاجه، وكان الطلب العالمي كبيرًا جداً آنذاك على مادة المطاط لاستخدامها في الحرب، ولذلك قام الاستعمار البريطاني باعطاء حكمٍ ذاتي لهذه الجزيرة وفصلها عن الدولة الأم، وأثناء الحرب تحول أغلب سكان هذه الجزيرة إلى أثرياء وارتفعت مستويات الدخل والمعيشة بسبب ارتفاع أسعار المطاط والطلب العالمي الكبير عليه، وما ان انتهت الحرب وتم اكتشاف المطاط الصناعي كمنافس حقيقي للمطاط الطبيعي، انخفض الطلب العالمي بشكل هائل على المطاط الطبيعي، وبالتالي انخفض سعره إلى الحضيض، فإذا بهذه الجزيرة الغنية تنهار وتتبخر، فقد هاجر شبابها والأثرياء إلى دول أخرى في الجوار أو أوربا، ولم يبقَ فيها سوى كبار السن والفقراء والمؤمنين بالحفاظ على الوطن والأرض - وكانوا أقلية- ينتظرون بفارغ الصبر التحويلات المالية من أبنائهم المهاجرين ليواصلوا حياتهم في هذه الجزيرة التي كانت ثرية وأصبحت فاشلة خاوية !!.
إن قصة خلف وسهرة العطش يناقشان نفس الحالة الواقعية التي حدثت في تلك الجزيرة في شرق آسيا، حيث تحولت نعمة (المطاط) كثروة ريعية إلى لعنة ونقمة، تماماً كما تصورها خلف من تحول نعمة (النفط) كثروة ريعية إلى لعنة ونقمة، باعتبار أن الموردين (المطاط والنفط) حينما يصبحان المصدرين الوحيدين الأساسيين للاقتصاد، فإن أي أزمة مفاجئة أو تراكمية -كانخفاض الطلب أو السعر أو وجود بدائل عنهما- فإن هكذا مجتمعات مصيرها الانهيار والاضمحلال والتبخر!.
وقد أبدعت القصة والسهرة التلفزيونية في تجسيد هذه الحالة في البحرين كنموذج لدولة ريعية نفطية.
من الومضة إلى الصدمة في قصة أخرى:
حالة ثالثة في تجربة خلف القصصية توقفتُ أمامها، والمتمثلة في قصة قصيرة بعنوان "الرغبة تحت شمس ترتعش"، والتي نشرت في صيغتها الأولى (الأصلية) في أكتوبر ١٩٦٧ في مجلة صباح الخير المصرية بعنوان آخر وهو "اللون الأغبر"، كما نشرت نفس القصة في مجلة البيان الكويتية في ديسمبر ١٩٧٠، وبعد مرور (١٨) عاماً قام خلف بإعادة صياغة وتعديل وإضافة أجزاء عليها، ونشرها عام ١٩٨٥، وهي الصيغة الواردة في المجموعة القصصية موضوع بحثنا وبعنوانها الجديد.
وتحت حالات "الومضة" في هذه القصة، تفجرت مُخيّلة الأستاذ عيسى الحمر حيث قام بإعداد هذه القصة في سيناريو سهرة لتلفزيون البحرين في ثمانينات القرن الماضي، وأخرجه الأستاذ فتحي السبع تحت عنوان "فجر يوم آخر".
نحن أمام هذه القصة القصيرة، لدينا متغيرات جميلة فيها. فقد كان عنوانها "اللون الأغبر" في العامين ١٩٦٧ و ١٩٧٠ . وفي عام ١٩٨٥ تم تغيير عنوانها إلى "الرغبة تحت شمس ترتعش"، لكن الأهم هو التعديلات والإضافات الجوهرية - خاصة في ختامها- وهذه الإضافات هي التي حوّلت القصة إلى"الصدمة" المبهرة التي خلقت انشطاراً من الخيالات في ذهن المتلقي، وهذه الصدمة لا شك أنها اندمجت مع الومضة، لتتحول القصة إلى مصدر جاذبية وإعجاب بها.
فما هي التعديلات التي قام بها خلف في هذه القصة التي خلقت مثل هذه الصدمة المبهرة؟.
١- المشروعية في تعديل النص بعد نشره:
من المعروف أن الرواية أو القصة المنشورة والمطبوعة في كتاب، من الممكن تعديلها وتبيئتها وحذف أو اضافة بعض مشاهدها، وذلك عند اخراجها في فيلم أو مسرحية. ولكن أن يقوم مبدع هذه القصة بعد مرور سنوات من نشرها بتعديلات عليها ونشرها من جديد بصيغة أخرى، فإن وراء ذلك هدف ورسالة، بل وعدم الرضا بالصيغة الأصلية الأولى.
إرنست ميلر همينغوي
رؤية الروائيان همينغواي و بيجليا:
وفي هذا المقام دعونا نستمع إلى رأي أحد المبدعين والمُنظِّر الأرجنتيني "ريكاردو بيجليا"، ورؤيته حول مشروعية تعديل نصوصه المنشورة والمطبوعة قبل سنوات طويلة وإعادة طباعتها بصيغتها الجديدة.
يعتبر ريكاردو بيجليا أحد أبرز كتاب اللغة الأسبانية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو روائي وقاص وناقد وأكاديمي أرجنتيني، صدر له ما يربو على عشرين كتاباً ما بين الرواية والقصة والدراسة النقدية والثقافية، ويعتبره النقاد أول من أطلق شرارة جيل ما بعد الواقعية السحرية.
في مقدمة مجموعته القصصية "الغزو" الصادرة ضمن سلسلة "إبداعات عالمية" العدد (٤٣١) يونيو ٢٠١٩ - المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت. يشير ريكاردو بيجليا بان مجموعته القصصية "الغزو" صدرت طبعتها الأولى عام ١٩٦٧، وبعد مرور أربعين عاماً، قرر إعادة نشر الكتاب، ويقول "لا أظن أن الكاتب يتحسن كلما تقدم، ولا أنه يكتب أفضل مع السنين - ربما العكس هو الصحيح في أغلب الأحيان- وعلى المدى الطويل، نظن أننا نكتب بطريقة مختلفة لكننا نكتب دائماً بنفس الكيفية وبنفس الأخطاء وبنفس النجاحات النادرة والمفاجئة"، ويواصل " لقد أعدت قراءة قصص الطبعة الأصلية وراجعتها عدة مرات، وقمت بالعديد من التعديلات والتصويبات، وتعلق الأمر عموماً ببتر وحذوفات أكثر من أي شيء آخر". ويكشف بأن القصة الوحيدة التي أعاد كتابتها كاملة من جديد هي (أمسية حب) حيث لم تكن النسخة الأولى منها تقنعه، وخلاصة رؤيته أن "إعادة كتابة قصص قديمة محاولين أن تبقى على حالتها الأولى ليس إلا محض يوتوبيا أدبية طيبة، أكثر طيبة، في كل الأحوال، من تمنِّي ابتداع شيء جديد، ثمة وهم إضافي قد تجعلنا نعتقد أننا حين نعيد كتابة القصص التي أنشأناها في الماضي سنعود كما كنا في زمن كتابتها الأولى". ويشير في مقدمته هذه إلى رأي الروائي الأمريكي إرنست ميلر همينغواي، الحائز على نوبل في الآداب عام ١٩٥٤، حيث يوضح " أن كل ما يمكننا إزالته من القصة سوف يحسّنها".
٢- عودة لقصة خلف أحمد المُعدلة:
أجرى القاص خلف تعديلاً "جوهرياً" في قصته (الرغبة تحت شمس ترتعش) سواءٌ في عنوانها، أو خاتمتها، وواضح من سيناريو السهرة التلفزيونية "فجر يوم آخر" المستوحى بالكامل تقريباً من هذه القصة، أن مُعد السيناريو التزم بمضمون الصيغة المعدلة، ولكنه تحاشى نهايتها إلى نهاية تكون مقبولة للرقابة- على ما أعتقد!-، حيث لم يتطرق إلى التحقيق مع الصبي في مركز الشرطة، ولا إلى شراء الرشاش (الصدمة الجميلة)، بل ركّز السيناريو أكثر على أسرة الصبي وحالة العجز لدى والده وصراع الأسرة في البقاء على الحياة ونضالها من أجل الشرف والكرامة والكبرياء رغم حالة الفقر.
ولذلك فإن سيناريو هذا الفيلم هو تشظّي الأفكار من نواة قصة خلف، يبدأ في سياق أحداث القصة لينطلق في فضاءات اجتماعية هي بالتأكيد ومضات وخيالات ترسلها القصة في ذهن المتلقي، وفي ذهن سيناريست متألق يحمل شرارة الخيال في تحويل قصة قصيرة إلى فيلم. وإن لم ينته الفيلم بالصدمة الجميلة!.
وأعتقد بأن الصيغة الجديدة لهذه القصة تنطبق عليها رؤية الروائي همينغواي " إن كل ما يمكننا إزالته من القصة سوف يُحسّنها".
إن التعديل -بل الإضافات- التي قام بها خلف على نهاية هذه القصة هي التي حوّلتها من رسالة "ومضة" إلى قصة "الصدمة" المفاجئة للقاريء، تلك الصدمة التي لم يشرحها القاص مطلقاً، وإنما بكلمة واحدة في ختام القصة (الرشّاش) قد أطلق شرارة الومضات والخيال، بل بهذه الكلمة تمكّن القاريء من اختراق عقل وتفكير وغضب الصبي الفقير الذي أُهين أمام رجل ثري، وتم التحقيق معه في مركز الشرطة، لذا كانت ردة فعله، وهو الصبي الذي كان يحلم بجمع المال القليل من عمله في غسل السيارات وذلك لشراء لعبة صغيرة (سيارة) يتلّهى بها، فإذا به يقرر أن يشتري لعبة الرشاش!!.
مضمون القصة:
صبي بأعوامه التسع، تحت شمس ترتعش يمسح مقدمة سيارة فارهة، ولحاجة أسرته الفقيرة للمال يضطر أن يعمل منظف السيارات، وأثناء تنظيفه لإحدى السيارات الفارهة، يشاهد محفظة مملوءة بالنقود ملقية تحت مقعد السيارة، لكنه لا يلمسها. وتتوالى المشاعر والرغبات والأحداث في القصة، ويتّهم صاحب السيارة الصبي بسرقة المحفظة، وأثناء التحقيق معه وتفتيشه وعدم حصولهم على النقود معه، يقرر الضابط تفتيش السيارة حيث يعثر على المحفظة تحت المقعد. وبدلاً من تقديم الاعتذار للصبي، يخرج صاحب السيارة من مركز الشرطة بعد التأكد من وجود المبلغ كاملاً في المحفظة دون أي اعتذار ولا حتى إعطاء الصبي أتعاب غسيله لسيارته، وكذلك الضابط قبل الإفراج عن الصبي يهدده بأن لا يريد أن يراه في موقف السيارات وإلا سيتم حبسه، ويصرخ في وجهه طالباً منه الرجوع لبيته فوراً ودون توقف، حيث يركض الصبي خائفاً ومنطلقاً في الشارع تاركاً سطله ومزق من الأقمشة، ويصل في زحام السوق، ولا يتوقف إلا عند واجهة حانوت اللعب وراح يتأمل سيارته الرائعة قليلاً، ثم حوّل نظره عنها، متنقلاً من لعبة إلى أخرى، حتى توقف وثَبَّتَ نظراته هناك في الزاوية، أسود كبير قوي، فعدّلَ عن رغبته في شراء السيارة، وقرر أن يشتري ذلك الرشاش!.
هذه هي نهاية القصة في صيغتها المعدلة الجديدة، حيث أضاف القاص مشهد التحقيق مع الصبي، ومن ثم خروجه راكضاً، ووصوله إلى محل الألعاب الذي كان يمرّ يومياً أمامه حالماً بشراء سيارة صغيرة، فإذا به يُطَلق هذا الحلم اليومي ويقرر شراء رشاش.
في حين أن نهاية القصة الأصلية- قبل التعديل- المعنونة بـ"اللون الأغبر" كانت نهايتها تقليدية. حيث يتهم صاحب السيارة الفارهة للشاب في موقف السيارات بسرقة محفظته، وينكر ذلك، وحين يكتشف أحدهم من منظفي السيارات حيث يفتش أحدهم السيارة ويجد المحفظة تحت المقعد، عندما يتأكد صاحب السيارة من المبلغ الموجود في المحفظة يقوم بدس ورقة حمراء في يد الفتى، وتنتهي القصة باحتقار الشاب لهذا الرجل الغني الذي لم يعتذر، لكنه دس ورقة حمراء في يده وذهب، حيث يلتفت إليه وهو يمشي في خيلاء، بينما يلاحظ قدميه كيف تنزلان على الأرض بثقة ووجهه مرفوع.
وتتوضح من نهاية القصتين (الأصلية والمُعدّلة) الفرق الكبير في تغيير جوهر الرسالة التي هدف القاص توصيلها إلى المتلقِّي، من مجرد بقاء هذا الشاب واثقاً من نزاهته رغم فقره وحاجته للمال... إلى صبي (لقد تحول الشاب في الصيغة الأصلية إلى صبي في التاسعة من عمره في الصيغة المُعدلة) بدأ الوعي الطبقي يتبلور لديه، حيث وجد في محل الألعاب لعبة سوداء كبيرة وقوية فقرر أن يشتري هذا الرشاش! كدلالة واضحة على الثورة ضد الظلم والفقر، ودلالة أوضح لأسباب هذا الظلم والفقر الاقتصادية والاجتماعية والطبقية.
الناقد الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا
جبرا إبراهيم جبرا ... يؤكد:
للروائي والرسام والناقد الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا(١٩٢٠-١٩٩٤م) تحليل سريع لتجربة القاص خلف، حيث نشر القاص محمد عبدالملك في صفحة (ثقافة وفن) بجريدة أخبار الخليج (٢٧ مايو ١٩٨٩) ملخصاً لآراء جبرا إبراهيم حول تجارب بعض الأدباء البحرينيين، ومنهم خلف احمد خلف، وذلك في كتاب صادر عن رابطة الأدباء في الكويت، والذي تضمن أوراق عمل الملتقى الأدبي للقصة القصيرة في دول مجلس التعاون الذي عقد في مايو ١٩٨٩. ويشير جبرا في مداخلته الشفوية في ذلك الملتقى بأن قصة "التحديق في الوجه المألوف بغرابة" لخلف احمد خلف، والمهداة إلى الشاعر قاسم حداد، بأنها قصة سريالية قوامها الصور البصرية المتلاحقة دون منطق، كسيناريو سينمائي، إنها مونتاج سينمائي لخلق القرائن والإيحاءات والهواجس، فهي في الواقع قصة متميزة حداثية بالمعاني وبموضوعها. ودون الدخول في هذه القصة التي يحللها جبرا، والمنشورة أيضاً ضمن المجموعة القصصية، موضوع بحثنا هذا. فإن ما يهمنا من رؤيته النقدية هو تأكيده على وجود ومضات في هذه القصة من صور بصرية متلاحقة، وكأنها سيناريو لفيلم سينمائي وإيحاءات. وأعتقد بأن كل هذه السمات ثيمة تتميز بها معظم قصص خلف والتي جذبت كتّاب السيناريو في تحويلها إلى أعمال تلفزيونية، كما حاولنا تأكيده في سياق هذا البحث.
الومضات والصدمات والهواجس:
أخيراً فإن الأسلوب السردي الذي تتميز به معظم قصص خلف أحمد خلف مفعم بالهواجس والحوار الداخلي للذات، بل والحذر في كشف ما يرغب الكشف أو البوح به، وهذا الحذر الذي تحس به في بعض هذه القصص هو ما يخلق هاجس السؤال عن هذا الغموض والحذر، والسؤال هذا الذي يهيمن على المتلقي يفتح باب الخيال الخصب في تحويل صورة سريعة من فقرة قصيرة إلى أحداث ومشاهد متلاحقة قد لا تكون مرتبطة بشكل مباشر بمضمون القصة، وهي ما أُسميها بالومضات التي تطلق شرارة الخيال، بل وتشظّي هذا الخيال إلى نجوم متناثرة من الأفكار. وإذا ما ارتبطت هذه الومضات بالصدمات غير المتوقعة نهايات أو سياقات بعض القصص، فإن هذه الصدمة المبهرة بالتأكيد تولد كالشرارة أيضاً تشظّيات في الخيال، وبالتالي أعتقد بأن مثل هذا السرد القصصي الإبداعي يِمثِّل كنزاً ومنجماً لكتّاب السيناريو السينمائي.